بسم الله الرحمن الرحيم
الداعية عائشة عبد الرحمن القرني
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } .
1- في قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } توجيه من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ابتداءً ، وللمؤمنين من بعده جميعاً , إلى الاعتصام به واللجوء إليه من شر مخلوقاته .
ومعنى أعوذ : أي أمتنع وأَلْتَجئُ وأحْتَمي وأعتصم وأستجير وأطلب الأمن والسلامة ، كُلُّ هذه المعاني مُسْتفادة من كلمة (أعوذ) ، كقول : عاذَ الطِّفْلُ بِأُمِّه ، أيْ : اِلْتَجأ إليها ، وأوى إليها ، وامتنع بها واحتمى بها مما يخاف ويخشى ، فالهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه يسمى معاذاً وملجأً .
2- في قوله تعالى : { بِرَبِّ الْفَلَقِ } يذكر جل وعلا نفسه بصفته التي يكون بها العياذ ، فرب الفلق هو الله جل في علاه . والفلق : هو نور الفجر الذي يطرد الظلام ، ولهذا أمر عباده أن يستعيذوا بربّ النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها وهو سبحانه يُدعى بأسمائه الحسنى فيُسأل لكل مطلوب باسم يناسبه .
3- في الاستعاذة بهذه الصفة تفاؤل وتذكير بالنور بعد الظلمة، وبالسعة بعد الضيق، والفرج بعد الشدة ، فالذي فلق الظلمات بنور الصبح ، وأزال هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم ، قادر أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه .
4- { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وهذا يشمل شر كل مؤذٍ خلقه الله تعالى ، سواء من الجن أو الأنس أو الهوام أو السباع أو الدواب أو الريح أو الصواعق أو الهواء أو النار أو الليل أو الكواكب وسائر أنواع البلاء ، حتى النفس ، لأن النفس أمارة بالسوء، فإذا قلت من شر ما خلق فأول ما يدخل فيه نفسك، كما جاء في خطبة الحاجة «نعوذ بالله من شرور أنفسنا» .
5- في قوله : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } دلالة على أن ذلك عام في كل ما يستعاذ منه، ولكن جاءت الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد تنبيها على أن هذه الشرور من أعظم أنواع الشر.
6- { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ومن شر الليل إذا دخل ، فالغاسق هو الليل إذا عظم ظلامه ، وسمي الليل غاسقاً لانصباب ظلامه على الأرض ، أما الوقوب فهو الدخول في شيء آخر بحيث يغيب عن العين ، فالغاسق إذا وقب : هو الليل إذا دخل .
7- في الآية أمر الله جل وعلا بالاستعاذة من شر الليل إذا دخل ، لأن الليل إذا دخل تتسلط فيه شياطين الإنس، وشياطين الجن ، والدواب والهوام .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال : { يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك , وشر ماخلق وشر ما فيك ومن شر ما يدب عليك , وأعوذ بالله من أسد وأسود , ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وماولد } رواه أبو داود 260(3/34 والحاكم في المستدرك رقم 2487:(2/110) وصححه . 8-
8- الليل مخلوق من مخلوقات الله لا يجوز سبه لذاته، وإنما أمر الله جل وعلا أن يُستعاذ من شره ، من أجل الشر الذي يقع فيه ، وليس الليل بذاته ، فالليل والنهار والأيام لا تذم لذاتها، ولا يسند إليها شيء .
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ) أخرجه مسلم 2246.
وسُئِلَ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم سب الدهر فأجاب قائلاً : سب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يقصد الخبر المحض دون اللوم : فهذا جائز مثل أن يقول : تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده ، وما أشبه ذلك لأن الأعمال بالنيات واللفظ صالح لمجرد الخبر .
القسم الثاني : أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل كأن يقصد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلِّب الأمور إلى الخير أو الشر : فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً حيث نسب الحوادث إلى غير الله .
القسم الثالث : أن يسب الدهر ويعتقد أن الفاعل هو الله ولكن يسبه لأجل هذه الأمور المكروهة : فهذا محرم لأنه مناف للصبر الواجب وليس بكفر ؛ لأنه ماسب الله مباشرة ، ولو سب الله مباشرة لكان كافراً . انتهى كلامه . فتاوى العقيدة 1/197.9-
9- { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } ومن شر الساحرات اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يُردن من السحر، والنفث هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهم، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور واستعان بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد نفخاً معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَس ممازج للشر مقترن بالريق ، وقد تساعده الروح الشيطانية على أذى المسحور؛ فيقع فيه السحر بإذن الله .
10- في قوله : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } دلالة على تأثير السحر وأن له حقيقة، ومن المعلوم أن السحر لا يغير من طبيعة الأشياء ، ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر ، وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر من تخييل وتفريق وإيذاء ومرض وحب وبغض ، وما إلى ذلك ، فهو شر يستعاذ منه بالله ، ويلجأ منه إلى حماه .
11- { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } وهذا الشر الرابع وقد دلّ القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود ، فإذا نظر الحاسد إلى المحسود نظرة من نفس غضيبة خبيثة حاسدة، كان لتلك النظرة تأثير في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد .
12- إن الشر يتحقق من الحاسد عند صدور الحسد، فقد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ولاهٍ عنه فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك إذا لم يتحصن المحسود ويكن له أوراد بحيث يُدفع عنه من شر الحاسد بقدر توجهه وإقباله على الله .
13- في الآية حث من الله جل وعلا على الاعتصام به واللجوء إليه من شر كل حاسد يتمنى زوال النعمة عن غيره ، ولا يرضى بما قسمه الله تعالى له ، ويكره نعمة الله على غيره ، ويضيق ذرعاً إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال، أو جاه، أو علم أو غير ذلك. وصدق الشاعر حين قال :
قل لِمَن بات لي حاسِداً أتَدْري على من أسأْتَ الأدَب ؟
أسأْتَ على الله في فِعْلِه إذْ لم ترْضَ لي ما وَهَـــبَ
14- الحسّاد نوعان: نوع يحسد ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، فهذا تجده مهموماً مغموماً من نعم الله على غيره، لكنه لا يعتدي على المحسود ، وكفى بهذا الهم والغم الذي يصيب هذا الحاسد ، كفى به عقوبة .
والنوع الآخر تجده يكره نعم الله على الغير فإذا أحس بنفسه أن الله أنعم على فلان بنعمة خرج من نفسه الخبيثة معنى لا يوصف لأنه مجهول، ولهذا قال: {إذا حسد}. وهذه هي العين الحاسدة التي تتسلط على المحسود ، فأحياناً يموت، وأحياناً يمرض، وأحياناً يُجن ، وكل ذلك بأمر الله .
15- في قوله تعالى : { إذا حسد } قيَّد - سبحانه - شر الحاسد بقوله: إِذَا حَسَدَ ، لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن لا يترتب عليه أذى لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله .
قيل للحسن البصري: (أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك إخوة يوسف ؟ )، فإذا كان في قلب المرء حسد ، ولكنه يخفيه ولا يترتب عليه أذى ولا يعامل إلا بما يرضي الله، لأنه يرى ذلك مخالفة لله وبغضاً لما يحبه الله فهو لا يطيع نفسه، بل يعصيها خوفاً من الله وحياءً منه أن يكره نعمة الله على عباده، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها الدعاء للمحسود .
16- الحسد ثلاث مراتب كما بيَّنها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في تفسير المعوذتين : إحداها هذه وهي : تمني زوال النعمة .
والثانية: تمني استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يُحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص أو عيب، فهذا حسد على شيء معدوم، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسدٌ عدو نعمة الله وعدو عباده .
والثالثة: حسد الغبطة: وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة وقد قال - تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26]. وفي الصحيح عن النبي أنه قال: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس }. فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه حبُّ خصال الخير والتشبه بأهلها والدخول في جملتهم، فيحدث له المنافسة والمسارعة مع حبه لمن يغبطه وتمني دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما. انتهى كلامه رحمه الله .
17- المستعيذ بالله من شر حاسد النعمة هو المستعيذ بمن أولاه هذه النعم وأعطاه إياها ، فهو يطلب ممن أعطاه وأكرمه أن يمنعه ويحميه ممن يريد إزالة النعم عنه ، فإذا وثق العبد بربه كفاه ، وكما قيل : على قدر اليقين تكون الكفاية .
18- اقترن الحاسد و الساحر في السورة ؛ لأن مقصدهما الشر للناس ، والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما، ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان، وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه؛ فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر كما ذكر ابن القيم رحمه الله .
19- هذه السورة من أكبر أدوية المسحور والمحسود ؛ فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من كل شر ، ولكن هذه المعاني الظاهرة يستلزم لتحقيقها أن يقوم معناها بالقلب أبلغ قيام .
20- الاستعاذة بهذه الصفة العظيمة { رب الفلق } وما تشتمل عليه من قوة وغلبة وسلطان على ظلمات الشرور والسحرة والحاسدين يبعث في النفس الطمأنينة والأمن ، فلا تستعيذ من شيء بأعظم ممن خلقه! وتأمل لفظة الفلق، وما يقابلها من انغلاق الليل، وانغلاق عقد السحرة، وانغلاق قلوب الحاسدين.
21- اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم، وتضمنت شروراً أربعة يستعاذ منها: شراً عاماً وهو شر ما خلق، ثم جاء تخصيص هذه الأمور الثلاثة : الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد ، والحاسد إذا حسد ، وذلك لظهور ضررها وعظمها وكثرتها . وإلا فهي داخلة في قوله : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } ، لأن البلاء كله في هذه الأحوال الثلاثة يكون خفياً ، ولهذا جعل الله الاستعاذة به ، واللجوء إليه ، لإبطال كل كيد ، وهذه دعوة منه جل في علاه إلى ما يأمن به العبد الضعيف الذي لاحول له ولا قوة .
22- في السورة حث على الاستعاذة بهذا الرب العظيم ، وما أعظم أنْ تسْتعيذ بالله عز وجل ، وتلجأ إليه ، وأنْ تكون في حِماه ، فهو وحده أهل أنْ تسْتعيذ به من كل ماتخافه في هذه الدنيا ، فالخلق خلقه ، والأمر أمره ، والملك ملكه ، وكل شيء في قبضته ، وهو القادر سبحانه على أن يدفع عنك كل ماتخاف وتحذر.
23- لو لم يجْعل الله سبحانه وتعالى في الأرض مصادر للخوف لاستغنى العبد عن ربه ، ولكن لحكمته جل وعلا جعل هذه الأشياء المُخيفة ليلجأ العبد إلى ربه ، وإذا التجأ إليه سعد بقربه ؛ فهذه الأشْياء المُخيفة التي بثَّها الله في الأرض تجعلك تلوذ به ، وتحْتمي بِحِماه ، وتُقْبِل عليه ، وتتعلق به .
24- في السورة الأمن والطمأنينة والسلام من المخاوف بتلك الكلمات العظيمة ، فالمستعيذ هو العبد الذليل الفقير الذي لا حول له ولا قوة , ولا دفع لما حوله من الشرور إلا بإيمانه بالله تعالى وثقته به وتوكله عليه ، والمستعاذ به هو الله جل جلاله الخالق القادر العظيم , فكل من استعاذ بغيره خذله ذلك المستعاذ وتخلى عنه .
25- استعاذة اللسان يجب أن تكون متواطئة مع استعاذة القلب مكملة لها ، وذلك بأن يكون القلب منطرحاً بين يدي ربه ، مفتقر إليه متذللاً له , هارباً إليه وحده , منقطعاً إليه , قد قامت به كل معاني المحبة والخشية والإجلال والمهابة , فإذا تحقق ذلك بتوفيق من الله وعون ، فكيف لشيطان مهما تمرد أن يصل لعبد تحققت فيه هذه المعاني ؟!
26- إن من أتى بهذا الذكر وغيره من الأذكار المأثورة بدون استحضار منه فإن تأثير الذكر فيه يكون ضعيفاً ، فلا بد من استحضار المعاني من جهة ، والتصديق واليقين بها من جهة أخرى ، فإنه بقدر مايقوم بقلب العبد من هذه المعرفة والاستحضار تكون الحماية والعصمة بإذن الله .
27- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، وقرأ فيهما ، " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها .
وفي صحيح مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ