بسم الله الرحمن الرحيم
للقصص القرآني وقعه الخاص في القلوب وأثره العظيم في التربية حيث تحتل مرتبة التربية بالقصة صدارة وسائل التربية , وقد أنزل الله القصص للاعتبار كما قال سبحانه "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" فحق لنا أن ننهل منه ونغترف من دروسه . وفي قصص سورة الكهف على كثرة دروسها ننهل اليوم من درس عظيم فيها , فقد بين الله سبحانه في ثلاث قصص منها أمرا جليا عظيما ينبغي التوقف عنده والاهتمام به فقد وضح الله للمؤمنين مراتب إنكار المنكر الثلاث بصورة عملية وواضحة فمراتب إنكار المنكر كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري صلى الله عليه وسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ". وخيرية هذه الأمة لا تكون إلا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا خيرية بحسب ولا بنسب ولا بمال ولا ثروة كما قال الله " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " والقيام بهذا الواجب ينقذ الأمة من الوقوع في مهاوي الردي ففي الحديث الذي رواه الامام البخاري عن النعمان بن بشير قال صلى الله عليه وسلم مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها ، مثل قوم استهموا سفينة ، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذوا به ، فأخذ فأسا ، فجعل ينقر أسفل السفينة ، فأتوه فقالوا : ما لك ، قال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء ، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم ، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم " وإذا ضيعت الأمة جميعها هذا الواجب كان هذا إيذانا بعقوبة تصيب الجميع صالحهم وطالحهم ولا ينجو منها أحد " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب " ففي القصة الأولى يبين الله تبارك وتعالى لنا كيف يكون إنكار المنكر بالقلب واعتزال الفتنة إذا ادلهمت فحينما كان الفتية قلة في العدد والعدة وقاموا بالدعوة إلى الله ما استطاعوا قدر جهدهم ووقفوا أمام الظلم وأعلنوا شهادة التوحيد كما ذكر الإمام الطبري في تفسيره " قاموا بين يدي الجبار دقينوس فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته : { ربنا رب السموات والأرض } يقول : قالوا ربنا ملك السماوات والأرض وما فيهما من شيء وآلهتك مربوبة وغير جائز لنا أن نترك عبادة الرب ونعبد المربوب لن ندعو من دونه إلها " جامع البيان وحينما شعروا بالهلكة مع ضعفهم بعد قيامهم بواجب البلاغ والدعوة إلى الله لم بكن أمامهم إلا الإنكار القلبي واعتزال الفتنة فقال الله عنهم " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " وتأتى القصة الثانية قصة صاحب الجنتين الذي تجبر بماله وظن أنه كسب المال بحوله وقوته فقط , ونسي أن له ربا خالقا يسر له أمره وبارك له في كسبه وأعطاه الملكات والقدررات التي تمكنه من الكسب , لكنه غفل بالنعمة عن المنعم وبالسبب عن المسبب وتجبر بالمال الذي ملكه الله إياه فنسي أنه مستخلف في المال بل ظن أن الله غير قادر على إبادة جنته فقال تعالى " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " ثم ازداد في جرمه وكذب بقيام الساعة فقال " وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " والإنسان إذا أعطي المال الكثير ربما يستغني ويطغى كما قال الله )كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى " وهنا قام صاحبه بواجب إنكار هذا المنكر بلسانه فذكره بالله الخالق القادر وذكره بنعمه وآلائه " قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ...." وأراد أن يعيده إلى ربه لولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا" فكان هذا درسا في إنكار المنكر باللسان بصورة عملية يتفهمه المسلم وتأتي القصة الثالثة قصة الملك الصالح ذي القرنين الذي أعطاه الله الملك وآتاه من كل شئ سببا فانطلق داعيا إلى الله مسخرا كل ما وهب للدعوة إلى دين الله مغيرا كل منكر بيده وبقدرته وسطوته حتى بلغ مغرب الشمس ووجد عندها قوما لا يدينون دين الحق ولا يعرفون ربهم وخالقهم فأمره الله بدعوتهم وخيره بعد ذلك فيمن كذب وأعرض كما يفسره الطبري بقوله " إما أن تقتلهم إن هم لم يدخلوا في الإقرار بتوحيد الله ويذعنوا لك بما تدعوهم إليه من طاعة ربهم { وإما أن تتخذ فيهم حسنا } يقول : وإما أن تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد " جامع البيان وبالفعل قال ذو القرنين " قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا " وفي رحلة أخرى له ساهم في بناء السد على قوم يأجوج ومأجوج مستغلا ما وهبه الله من إمكانات في تغيير المنكر باليد بالطريقة التي يقدر عليها . فكانت هذه المرتبة مرتبة إنكار المنكر باليد , وقد فصل علماؤنا مراتب الإنكار وضوابطه لمن أراد الزيادة , ولكن نخلص بأن هذا الواجب مكلف به الجميع كل حسب طاقته وقدرته وموقعه ويظل القرآن الكريم دائما المعين الذي لا ينضب والذي لا تنقضي عجائبه